اتفاق وقف الحرب في غزة- فرص التطبيق وتحديات إسرائيل

المؤلف: د. أحمد العطاونة11.01.2025
اتفاق وقف الحرب في غزة- فرص التطبيق وتحديات إسرائيل

تسعى الحكومة الإسرائيلية، في خضم هذه اللحظات الحاسمة، إلى المناورة والالتفاف حول الاتفاق الإطاري المقترح، والذي أعلنت حركة المقاومة الإسلامية حماس، نيابة عن قوى المقاومة الفلسطينية، موافقتها المبدئية عليه. وتتجلى هذه المراوغة في محاولات السيطرة الكاملة على معبر رفح الحدودي، الذي يشكل شريان الحياة الوحيد لقطاع غزة المحاصر مع العالم الخارجي، فضلاً عن التلويح المستمر باجتياح مدينة رفح المكتظة بالنازحين.

يتضمن هذا الاتفاق المقترح ثلاث مراحل أساسية، تهدف في نهاية المطاف إلى تحقيق وقف شامل للأعمال العدائية والعسكرية، بمعنى وقف إطلاق النار بشكل كامل وإنهاء العدوان الإسرائيلي الغاشم. ونظرًا لأن المرحلة الأولى من الاتفاق تنص على وقف مؤقت لإطلاق النار، وإجراء تبادل محدود للأسرى، فإن التساؤل يثور حول فرص استمرار هذا الاتفاق، وإمكانية الانتقال به إلى المراحل اللاحقة، وصولًا إلى نهاية الحرب المأساوية، وذلك للاعتبارات التالية:

أولاً، فشل الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق أهدافه المعلنة من هذه الحرب الشعواء، وهي الأهداف التي كان يسعى لتسويقها أمام الجمهور الإسرائيلي على أنها نصر مطلق، كما وصفها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، على الرغم من مرور أكثر من سبعة أشهر على اندلاعها. ثانيًا، ما زال غالبية الجمهور الإسرائيلي يؤيدون استمرار الحرب، ولم يظهر تحول جدي في موقفهم حتى هذه اللحظة، إذ لم نشهد احتجاجات أو مسيرات مؤثرة تدعو إلى وقف هذه الحرب المدمرة. ثالثًا، ما زال نتنياهو يتمتع بأغلبية برلمانية مستقرة تدعم حكومته اليمينية المتطرفة، حيث يمتلك 64 عضوًا في الكنيست من أصل 120، وهي كتلة متماسكة ومنسجمة سياسيًا وأيديولوجيًا. رابعًا، غياب الضغط الكافي، حتى الآن، سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي، الذي يجبر الاحتلال على وقف عدوانه المستمر.

بالمقابل، تتوافر العديد من العوامل الضاغطة التي تشير بقوة إلى إمكانية تطبيق كافة مراحل الاتفاق المقترح، والوصول في نهاية المطاف إلى وقف العدوان الإسرائيلي. وهي عوامل ذات أهمية كبيرة، ويرجح أنها ستكون كافية للتأثير في سلوك الأطراف المختلفة، وسيكون تأثيرها أكثر فاعلية وعمقًا مما ذكر سابقًا، وستدفع بقوة نحو وقف هذه الحرب الدموية والعبثية على الشعب الفلسطيني الأعزل، ومن أبرز هذه العوامل:

أولًا، الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني، الذي يشكل حجر الزاوية ونقطة القوة الأساسية في المواجهة، وهو في الوقت نفسه نقطة الضعف والتحدي المركزية لدى الاحتلال. فلا هجرة، ولا استسلام، ولا ضغط على قيادة المقاومة، بل هناك استبسال وصمود وتحدٍ منقطع النظير. ثانيًا، التطور المستمر في البيئة الدولية، وبالذات الشعبية منها، التي لم تعد تحتمل كل هذا القدر من الجرائم والوحشية الصهيونية، التي كشفت الوجه الحقيقي للاحتلال، الذي لم يعد يمثل امتدادًا مشرفًا للحضارة الغربية، ولا دولة ديمقراطية تعتنق القيم الديمقراطية والإنسانية السامية، وإنما تسيطر عليه الرغبة الجامحة في القتل والتعذيب والإبادة، وهو ما ترجمه عمليًا بهذا الحجم الهائل من التوحش والبربرية.

كما أن هذه الجماهير الغفيرة بدأت تعي وتتفهم أن لدى الفلسطيني قضية عادلة ومحقة، وأن نضاله وصموده والقيم التي يعتنقها هي التي تتقاطع مع ما لديهم من قيم إنسانية نبيلة كالحرية والعدالة والتحرر، ولعل من أبرز معالم التحول في هذه البيئة، الانتفاضة الطلابية العارمة في الجامعات، والتحول الملحوظ في رأي الشباب، تحديدًا في الولايات المتحدة الأميركية؛ معقل رعاة الحرب والداعمين للاحتلال.

ثالثًا، البيئة الإقليمية، أيضًا، لم تعد تلعب لصالح الاحتلال، بل تتطور باستمرار ولو بشكل محدود لصالح الفلسطينيين، فالتصعيد الكبير الذي حدث مع إيران وما أحدثه من آثار على مستويات عدة، والتصعيد المستمر في لبنان واليمن، يساهم ذلك بشكل كبير في تقوية الموقف الفلسطيني وتعزيز صموده.

رابعًا، يضاف إلى ذلك تنامي المواقف والجهود الدبلوماسية والسياسية الحثيثة المبذولة من دول عدة في الإقليم، وعلى رأسها مصر وتركيا وقطر، والتي تهدف إلى وضع حد للعدوان الإسرائيلي الغاشم، ووقف الحرب بما يلبي المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني.

خامسًا، التحول الملحوظ في بعض المواقف داخل الكيان الإسرائيلي نفسه، حتى وإن كانت حتى اللحظة غير كافية لتغيير موقف الحكومة المتطرفة، لكنها ذات تأثير متزايد، ويحسب نتنياهو وحكومته حسابها جيدًا. فعائلات الأسرى لدى المقاومة الفلسطينية يتحركون باستمرار، وقد ازداد موقفهم قوة وصلابة بعد موافقة المقاومة الفلسطينية على ورقة الاتفاق الإطاري لوقف الحرب.

وفي ذات الوقت، ترتفع أصوات العديد من الخبراء وكبار المسؤولين السابقين – مثل إيهود باراك، وإيهود أولمرت – الذين يطالبون بوقف الحرب بشكل فوري ويعلنون فشل الحكومة والجيش في تحقيق الأهداف المعلنة، وضرورة الإقرار بذلك وتبني مقاربة جديدة للتعامل مع الأزمة تستند إلى رؤية سياسية واقعية.

يضاف إلى ذلك ظهور تقييمات عسكرية متزايدة تشير بوضوح إلى عبثية الحرب، وعدم القدرة على إنجاز الأهداف المنشودة بعد مرور كل هذا الوقت، وأن الزمن لم يعد يلعب لصالح الجيش الإسرائيلي وخططه العسكرية، حتى لو أُعطي فرصًا إضافية.

ختامًا، تحاول الحكومة الإسرائيلية جاهدة وضع العراقيل والعقبات أمام هذا الاتفاق، وستحاول تغيير بعض بنوده الجوهرية، وبالذات تلك المتعلقة بالأسرى، والوقف الكامل لإطلاق النار، لكن الأرجح أن هذه المحاولات اليائسة، وإن نجحت في تأخير تنفيذ الاتفاق بعض الشيء، فإنها لن تنجح في وقفه وتعطيله بشكل كامل. ذلك أن المفاعيل القوية التي أفرزتها الموافقة الفلسطينية على الاتفاق، من خلال التفاوض البناء مع الولايات المتحدة والوسطاء القطريين والمصريين، يصعب مواجهتها أو إيقافها.

كما أن هذا الاتفاق وما يرافقه من ديناميات متسارعة، إن لم يتمكن من وقف الحرب في نهاية المطاف، فستكون المقاومة الفلسطينية الباسلة، وعبر مرحلته الأولى على الأقل التي من المرجح أن تنفذ، قد قدمت ما عليها بشكل كامل، وتعاملت بقدر عالٍ من المرونة والحكمة السياسية، إذ بدت متجاوبة مع رغبة الأصدقاء في الإقليم والعالم، وكذلك نزعت فتيل الضغط الأميركي وفوّتت الفرصة على نتنياهو، وكل من يرغب في إلقاء اللوم على المقاومة في استمرار هذه الحرب.

كما أنها لم تخسر مما لديها من أوراق ضغط، الكثير، بل إنها قد تعزز من أوراقها السياسية والعسكرية، وسيبقى لديها عدد كبير من الأسرى من الضباط والجنود الإسرائيليين الذين لن يتجرأ أحد على المطالبة بالإفراج عنهم دون مقابل كبير، وستعطي هذه المرحلة للشعب الفلسطيني الصامد في غزة فرصة لالتقاط الأنفاس، وستشكل لمقاتلي المقاومة استراحة محارب تعينهم على الاستمرار في معركتهم الوطنية والإنسانية المشرفة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة